الجمعة، 13 مارس 2015

الأقْزام ، والمَسائل الخِلافيّة ..

حتى عهد قريب كان التحشير*1 عند سؤال الكبار يعدّ تصرفًا محرّمًا ، وأسلوبًا مستهجنًا مرفوضًا عند الكثير من الأسر ، وبالتالي المدارس ومجالس العلم إذا قسناها على نطاق أوسع ، غير أن جيل الأقزام ، القادم من الخلف ، كسّر كل القواعد الغابرة ، وضرب بكل المفاهيم السائدة عرض الحائط ، فقد أصبح أفراده ككائنات طفيلية تتغذى على الأسئلة المحرجة البريئة في آن معًا ، تلك الأسئلة " الوجودية " من الطراز الذي يأتي بالعيد من تلابيبه ، مثل : "ماما ، يعني لازم ألبس كل يوم ؟ " ، " ليش ما نشوف الله ؟ " ، " بابا أنا كيف جيت ؟ " ، ولا تكلّ [ تلك الكائنات ] أو تملّ أبدًا في سبيل إرضاء عطشها الدائم للون الدم الأحمر في الخدود المتورّدة خجلاً [ وتوريط ].
لا شكّ أن ذلك التعامل المتشدد آنئذ قد عطّل فينا - إلى حدّ ما - خصلة من المفترض أن تشكّل جزءًا هامًا من شخصياتنا ، وجعلنا نعيش على هامش الفهم والإدراك ، خصلةً كانت لتصنع منّا وممّن سبقنا ألسِنة سؤولة وقلوبًا عقولة*
2 إذا ما قوبلت بوعي وموضوعية ، كانت لِتجعل منّا جيلاً يفهَم بالقدر الذي به يحفَظ ، ولا يسلّم لكل متوارث وتقليدي دون تمييز واستدراك.

لكنّ هيهات لثورة الأقزام أن تقبل الانحناء وطأطأة الرأس ، بل أعلنتها عصيانًا عامًّا ، وأبت أن تسير على خطى [ الطيبين ] أمثالنا ، وأصرّت على التمرّد والتصرف كمستقبل استثنائي ، لا يشبه طيبتنا الإجبارية في شيء.

بالأمس سألني طفل صغير من طلاب حلقات التحفيظ ، لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره عن حكم المزمار*
3 أهو حلال أم حرام. حاولت التهرّب من السؤال قدر استطاعتي ، والتبرؤ من مقامٍ وضعني فيه - قَسْرًا - الفاضل القاتل " سعد باحاج " بحجج ليس أقلّّها أني لستُ أهلاً للإفتاء – صدقًا لا تواضعًا ، فهكذا أسئلة لا تصلُح معها الإجابات الفضفاضة غير المدروسة - لكن دون جدوى ، فما كان مني لعلمي بشخصيته [ التحشيرية ] الحفيّة إلا أن استعنتُ بالكتاب ، والدعاء المستجاب ، ثم سقتُ له الأحكام العامة في الرقص والغناء حميدها وذميمها ، واختصار الردّ بأن المتعارف عليه هنا هو تحريمه ، والأولى تجنب تجمعاته إذ لا تخلو من مخالفات شرعية لفظية أحيانًا ، وسلوكية في أحيان أخرى ، دون تفصيل ، فما كان منه بدوره إلا أن رد حديثي بفتوى معلّمه في المدرسة ، الذي أباح له بإجابة مطاطية [ لعب المزمار] ، واحتجّ هو – أي الطفل – بأن المسألة خلافيّة !

لا أمّ لي .. كيف عساني أردّ ؟!
هذه الكائنات القصيرة القامة ، العظيمة الإدراك ، تستحقّ منّا عناية أكبر ، واستثمارًا أصدق ، وتوجيهًا أصوب ، واحتواءً أكثر ، وفهمًا أعمق ، فالقمع المستمر لكل تساؤل جريمةٌ قد ندفع ثمنها غاليًا ، والتخويف الدائم مع كل محاولة للفهم والاستيضاح قد يأتي بنتيجة عكسية ، لا سيما وأبواب المعرفة بخيرها وشرّها باتت مشرعة أبوابها على مصراعيها في وقتنا الراهن ، فقد فتحتْ لهم الهواتف الذكية مغاليق الأبواب والأفهام ، وصارت في متناول الأطفال بسهولة واستهانة مخيفة دون رقابة ومتابعة - رغم أنها أخطر عليهم من الأدوية وعُلب ماكياج الأمهات - ، ولم تترك بابًا إلا وطرقته ، فأصبح ما كنّا نصرف الأموال الكثيرة والأوقات الطويلة في المدارس لدفع ضرّه ، صرنا اليوم ننفق أضعافه – دون قصد – لجلبه حتى غرف نومهم .. فتأمّلوا.

____________________
1- لفظة تُطلق على الإلحاح في طرح الأسئلة التعجيزية.
2- وصفٌ أطلقه سيدنا عمر على سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما.
3- فلكلور شعبي ورقصة منتشرة في الحجاز.

هناك تعليق واحد:

  1. الموضوع عينه تكرر معي فخلصت الى هذا الحل كي أتجنب مثل هذا الرد ( الموضوع فيله خلاف ) فقمت بمصارحة أحدهم مصارحة تامة بعد أن سقت له الأدلة الواردة في المسألة .
    سألني أحهم " هل نزول الحارة حرام "
    فأجملت له بعض الأدلة عن الرفقة والصحبة
    ثم صارحته بأسألة صغت جوابها على لسانه
    ثم أخبرته أنه مهما سمعت من العظات أو بلغ الختلاف بين الناس ذروته وأقصاه فسيبقى الميزان الداخلي لدى الانسان الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم " و الاثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس و أفتوك "
    وأما جيل الأقزام فهم كأحجار كريمة وجب صقلها كي تشع ألوانها براقة في الغد القريب فهم في شغفهم وفضولهم كالألماس الذي لا يتلف إلا أنه يتأثر بالشوائب وهي كبح جماحهم وعدم الرد على تساؤلاتهم كي لا يتبعوا الجيل الخالي .
    لك جزيل الشكر على هذا الطرح الأكثر من رائع

    BkOrY Marouf

    ردحذف

الأقْزام ، والمَسائل الخِلافيّة ..

حتى عهد قريب كان التحشير* 1 عند سؤال الكبار يعدّ تصرفًا محرّمًا ، وأسلوبًا مستهجنًا مرفوضًا عند الكثير من الأسر ، وبالتالي المدارس ومجالس...